الاعتماد على الحساب وتوحيد المسلمين في الصوم والفطر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسابيون من أهل الشرع

 

ذهب طائفة من أهل العلم خلافا لما عليه جمهور الفقهاء من السلف والخلف، وخلافا لما دلت عليه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالصوم والفطر برؤية الهلال ـ ذهبت هذه الطائفة إلى أنه إذا دل الحساب على دخول الشهر القمري بتقدير منازل القمر فيجب العمل به في الصوم والفطر، ومعناه عندهم أن تحصل مفارقة القمر للشمس بعد الاقتران قبل الغروب ويبقي الهلال في الأفق بعد غروب الشمس بحيث لو انتفت الموانع لأمكنت رؤيته، فالعبرة عندهم بوجود الهلال في الأفق بعد غروب الشمس، لا برؤيته.

قالوا وذلك لوجود السبب وهو العلم بوجود الهلال، وقد بين ابن دقيق العيد والسبكي مذهبهم على هذا النحو، ونفيا أن يكون معناه عندهم مفارقة القمر للشمس بعد الاقتران في أية لحظة من ليل أو نهار، واستدل بعض أهل العلم المعاصرين القائلين بهذا القول بالآتي:

1 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (.. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)، وفسروا (فَاقْدُرُوا لَهُ) بالحساب، أي فاجتهدوا له وقدروه بالحساب، كما استدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنه في الصحيح : (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاثِينَ)، قالوا ووصف الأمة بالأمية تعليل للحكم، فيدل على أنه إذا ارتفعت الأمية عن الأمة وعلمت الحساب كان لها أن تأخذ به، استدلالا بالمفهوم.

وليس فيما ذهبوا إليه حجة، فإن الحديث الأول: (.. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)، فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الروايات الأخرى للحديث بقوله: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاثِينَ)، وفي رواية: (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاثِينَ يَوْمًا)، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للفظة المبهمة في الحديث هو الصواب ولاشك، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم بكلامه.

 أما الحديث الثاني: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ) فالاستدلال به على الأخذ بالحساب محل نظر، للوجوه الآتية:

1 ـ وصف الأمة بالأمية في الحديث إنما هو لرفع الحرج، تيسيرا على الأمة ورفقا ورحمة وتخفيفا في التكليف، حيث ربط الشرع الصوم والفطر بعلامة سهلة واضحة بينة تُناسب الأمة الأمية، يُدركها الكبير والصغير والعالم والجاهل والجارية والمرأة والخادم والسيد، فَقَيْدُ الأمية في الحديث هو للامتنان على الأمة بالتخفيف، لا ليفيد عند رفعه رفع الحكم والأخذ بالأشد، فهو كالامتنان الوارد في قول الله تعالي:(وَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، فإنه لا يفيد قطعا أن الأمة إذا ارتفعت أميتها فصارت عالمة استغنت عن الرسالة، وكما في قوله تعالي بعد أن ذكر في سورة النساء ما ينصلح  به حال الأسرة من الأحكام: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)، فإنه لا يفيد مطلقا أن من كان من الأمة جلدا قويا له حكم آخر يختلف عما شرعه الله من تخفيف يناسب ضعف الإنسان.

2 ـ الاستدلال بالمفهوم وإن كان مختلفا فيه بين أهل العلم، فإنهم يتفقون على عدم الاحتجاج به عندما يكون للمنطوق غرض آخر غير إثبات خلاف المنطوق للمسكوت عنه، وهو هنا من هذا القبيل، فيكون لا حجة فيه بالاتفاق، لأن الغرض من ذكر الأمية في الحديث الرفق ورفع الحرج عن الأمة بجعل علامة الصوم مما يدركها سائر الناس .

3 ـ لو أخذ بمفهوم الأمية في هذا الحديث وجعلت تعليلا للحكم يرتفع بارتفاعها لرجع الدليل على نفسه بالإبطال، وهو لا يجوز، لأن الحديث سياقه في الصوم بالرؤية، والأخذ بالمفهوم يؤدى إلى إبطالها والعمل بالحساب، لذا قالوا: إن علة الحكم تعمل في داخل النص بالقياس عليه لا خارجه، كما أنه يؤدى إلى إحداث قول لا يقول به أحد، فهل إذا ارتفعت الأمية لا يكون الشهر مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين، بل يكون تسعة وعشرين وكسرا، كما علمنا الآن من دورة القمر حول الأرض.

4 ـ هذا المفهوم على فرض صحة الاحتجاج به عارضه مفهوم آخر في قوله صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ...)، فإن مفهومه أن الصوم لا يجوز لغير الرؤية، كما عارضه منطوق السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته)، وقوله: (لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلالَ)، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم، فتُقدم عليه عند التعارض.

توحيد الصوم والفطر:

ينفخ الإعلام هذه الأيام في تضخيم أمر اختلاف البلاد الإسلامية في بداية الصوم والفطر ويتعجب كيف لا يتفق المسلمون في صومهم وفي أعيادهم، ويصورون هذا على أنه مظهر من مظاهر الانحطاط والتخلف ولا يتردّدون أن يذكروا عبارات مثل: الكفار وطئت أقدامهم القمر ونحن لا نزال نختلف عن رؤيته لنصوم أو لا نصوم، ويَدّعون لرفع هذا الإشكال والخلاف على الاعتماد على الحساب، ونجد كثيرا من أهل العلم يُجارى الإعلام في هذا ويقترحون مشاريع تُنفق عليها أموال كثيرة؛ أقمار اصطناعية أو غيرها، لتجنيب العالم الإسلامي هذا الاختلاف في الصوم والفطر.

والسؤال: هل الاختلاف في الصوم والفطر هو إشكال حقيقي يستحق هذا الضجيج ويحتاج إلى حل تنفق عليه الأموال الطائلة، وهل هو مقصد شرعي ومصلحة حقيقية يجب تحصيلها؟

الأدلة الشرعية الدالة على الاعتداد في اختلاف المطالع باختلاف البلاد في الصوم والفطر أبين منها في إلغائها وعدم الاعتداد بها، فقد دل على إلغاء اختلاف المطالع وعموم الصوم إذا ثبت في قطر عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ)، ودل العمل باختلاف المطالع وأن كل بلد تتبع رؤيتها حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم الذي رواه كريب مولي ابن عباس قال: (.. َاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ الله بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الهِلالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُم الهِلالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟! فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَ لا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ، فَقَالَ: لا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم)، فابن عباس رضي الله عنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل بلد أن تصوم برؤيتها، وهو بين في دلالته علي ذلك دون احتمال، على حين أن حديث أبي هريرة (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ) فإنه وإن كان عمومه يحتمل الدلالة على أن الصوم يعم جميع الأقطار إذا ثبت، فإنه يحتمل أيضا أن يكون العموم فيه لجميع أهل القطر الواحد دون سائر الأقطار.

ثم إنه كما أن للناس في أنحاء الأرض أوقات مختلفة للصلاة ولمواقيت الإحرام في الحج ورأس حول مختلف لأصحاب الأموال في الزكاة فليس هناك ما يمنع من بدايات صوم مختلفة، ولعل الحكمة من ذلك تكثير أوقات العبادات وتنزل الرحمات لِيُنفق الناس في كل السنة ويُرفع الأذان في الأوقات المختلفة، وحتى لو وَحَّدْنا بداية الشهر فهل نستطيع أن نوحد بداية الصوم ونهايته بالإمساك والإفطار؟، ولو كان في توحيد بداية الصوم والفطر مصلحة شرعية متعينة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس على خلافها، فالأمر فيه سعة ويسر، لمن أراد أن يأخذ بعموم الرؤية ويصوم على رؤية غيره له ذلك، ومن أراد أن يأخذ برؤية نفسه من البلاد له ذلك، والأدلة الشرعية تسعه، فالإشكال ليس في اختلاف البلاد الإسلامية في بداية الصوم والفطر مادام اختلافهم مبنيا على فقه صحيح وقاعدة شرعية

 وإنما الإشكال عندما لا يكون الخلاف مُؤَسَّسا علي قاعدة شرعية ولا يجد له أصلا، فهذا هو الذي يفرق الناس ويجعل من أهل البيت الواحد صائما ومفطرا، وذلك كأن نحكم  بالصوم  أو الفطر بناء علي شهادة الشهود برؤية هلال لا وجود له، أو نحكّم الحساب في الصوم والفطر على خلاف السنة ونتكلف لذلك وجوها من الاستدلال بالمفهوم أو التعليل الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنا أمة أمية) أو نربط الصوم والفطر بحدوث الاقتران قبل فجر يوم الصوم ونخترع قولا في الشرع ليس عليه أثارة من علم.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

المدينة المنورة، 5 رمضان 1430 هـ

الموافق 26 / 8 / 2009

 

 

التبويبات الأساسية